قاس ٍ هو الموت في الغربة .. مؤلـمٌ أن لا تـُـنـفـِّـذَ وعدكَ بالعودة .. أن لا ترى مرة أخرى أشياءك التي تركتها هناك منذ سنين طويلة .. إنها ما زالت قابعة هناك تنتظر عودة المغترب الذي طالت غربته .. تعاتبكَ و أنت تحتضر بعيدا ً عنها قائلة :
أين وعـدكَ بالعودة ؟ قلتَ أنها أيام وستمضي .. وهاهي السنون مضت واحدة إثر أخرى .. عُـدْ أيها المرتحل أبدا .. وارقد رقدتك الأخيرة هنا .. بين أضلاعي وليضمك تراب وطنك .. فلا أروع من الوطن .. منحتـَـهم حيـاتـك..فلتمنحنا موتتك أليس
لنا نصيب فيك ؟ مؤلم أن لا تجد بجانبك ساعة الاحتضار أهل ولا ولد .. أن تموت وحيدا ً بعيدا ً منفيا ً في عزلة كانت من اختيارك .. أن لا تـُمـتـِّـعَ ناظريك للمرة الأخيرة بمن تحب .. موجع أن لا تسمع كلمة رضا وسماح من والديك تبعث الحياة في روحك الماضية إلى الهلاك .. آخر كف ستلامس كفــَّك .. وآخر كف ستمسح عن وجنتك دمعة سقطت في غفلة منك .
هي آخر ساعة لك في هذه الدنيا ، أليس من حقك أن تطلب تحقيق حلم أخير .. تحقيق أمنية واحدة مكافأة لك على ما قدمته .. ألا تستحق ؟ هل كتب لك أن تموت مرتين ؟ أولاهما عندما فارقت الوطن .. وهاهو الجسد يلحق بروحه .
منذ عدة سنين وأنت تعد بالعودة .. وتجزم أنها السنة الأخيرة لك في الغربة .. تلملم أغراضك في الصيف وتتأهب للرحلة الأخيرة .. إلا أنها تغريك مجددا ً وتسقطك في فخها .. فتعلق قدمك بين أنيابها وتمكث سنة أخرى وتليها أختها وأنت في كدٍّ وعمل متواصل .. فيفنى شبابك .. ويجف ماؤك .. وتذبل زهرة عمرك .. وتقف غصة الندم في مجرى تنفسك فتعيقك عن استنشاق الهواء بسلاسة .. فالعظم قد وهن .. والشعر قد شاب .. وتجاعيد متوازية بدأت تأخذ مكانها على أديمك .. فـتقرر الآن ـ وبكل جدية ـ أنك عائد لا محالة .. فتلملم أغراضك من جديد ، وتعلن للجميع أنك عائد .. أنك مللت الغربة .. أنك لم تعد تصبر عن الوطن .. تحدث نفسك مغتبطا ً يكاد الفرح يقفز من عينيك :
أخيرا ً سأعود .. أخيرا ً سأرتاح .
إلا أن خطى الموت تكون إليك أسرع .. فتباغتكَ ساعة الاحتضار بعيدا ً عن كل من تحب وكل ما تحب .. فتبحث شفاهك اليتيمة عمن يلقنها الشهادتين فلا تجد .. وتبحث سبابتك الضعيفة عمن يساعدها على النهوض فلا تجد .. فترحل من هذه الدنيا وحيدا ً كما ستلقى ربك يوم الحشر وحيدا ً .. لا أهل ولا ولد .